عرفالغرب الأوروبي ابتداء من القرن التاسع الميلادي تحولات جذرية طالت بنيتهالديموغرافية وتسببت في تضاعف عدد السكان فيه بسبب ملائمة المناخ في تلكالحقبة للإنتاج الزراعي مما أدى إلى وفرة في الغذاء ، وتناقص في انتشارالأمراض والأوبئة مما حد من عدد الوفيات . حتى أن بعض المؤرخين يضع هذاالعامل الديموغرافي في رأس قائمة الأسباب التي أدت إلى نشوء الحروبالصليبية في القرن الحادي عشر ، كما أنه سبب رئيسي في ازدهار ونمو حركةتجارية ناشطة في حوض البحر الأبيض المتوسط باتجاه الشرق الأوسط وبلدانالمغرب العربي قادتها واستأثرت بالقسم الأكبر منها المدنوالجزر الإيطالية كجنوا والبندقية وصقلية... كما أن الغرب الأوروبي تمكن في تلك الفترة من أن ينظم ويؤطر حركة الصراعالدامية والنزاعات التي كانت قائمة بين الملوك والنبلاء تحت سلطة الكنيسةفي عهد البابا غريغوار ( 1073 -1085 ) وذلك بإرساء قواعد أخلاقية جديدة خصوصاً بعد أن حدثت القطيعة الكبرى بين الكنيسة الأورثوذوكسية والكنيسة الكاثوليكية في العام 1054 .
كانتهذه بداية الاحتكاك بالحضارات الأخرى وأهمها في تلك الفترة الحضارةالإسلامية التي كانت تسيطر على القسم الأكبر من حوض البحر الأبيض المتوسطوحركة التجارة فيه .
عصر الاكتشافات الكبرى
تطورت في أوروبافي القرن الخامس عشر حركة ملاحة عالمية لم يسبق لها مثيل تمكنت من التوغلبعيداً عبر البحار والمحيطات الكبرى بفضل اختراعالبوصلة والأسطرلاب، وبفضل تطور العلوم المتعلقة بالملاحة وتمكنها من معارف جديدة منها: رسم خرائط أكثر دقة ، وتحديد اتجاهات الريح وسرعتها ، والتمكن من تحديد أماكن رسو السفن بقرب الشواطىء. وانطلقالأوروبيون نحو آفاق بعيدة بحثاً عن الذهب والفضة والسلع النادرةكالبهارات التي توسع استعمالها وازداد عليها الطلب ، وكانت هذه الحملاتبمثابة استكمال لحملات الغزو العالمية التي كانوا قد قاموا بها في عصرالحملات الصليبية.
ففي بداية القرن الخامس عشر ، قام البرتغاليون باكتشاف الشاطىء الغربي لإفريقيا متوغلين عبر الشاطىء الجنوبي للمغرب ، وفي العام1417 تجاوزوا خط الاستواء ، وفي العام1487 وصلوا إلى رأس الرجاء الصالح. بعد عشر سنوات ، تمكن البرتغالي فاسكو دي غاما من الدوران حول رأس الرجاء الصالح والوصول إلى كلكوتا عبر المحيط الهندي.ثم في العام1492 قرر الإيطالي( من جنوة) كريستوفكولومبوس الوصول إلى الهند منطلقاً من الغرب ، ودون الحاجة للمرور ببلادالمسلمين ، ومعتمداً على مقولة اليونان القديمة القائلة بأن الأرض كروية ،وبناء على حسابات" الفرغاني" . لكنه وصل إلى جزر الأنتيل وهو يظن بأنها بلاد الهند ، حتى جاء من بعده الفلورنسي أمريكو فاسبوتشي ليبرهن على أن كولومبوس قد اكتشف" العالم الجديد" ( أمريكا ) . ثم في العام1521 قالم البرتغالي ماجلان بدورة كاملة حول الأرض وذلك بالالتفاف حول القارة الأميركية الجنوبية.
نشأة اقتصاد عالمي جديد
توسعت حركة التجارة العالمية بفضل هذه الإكتشافات وبدأت الدول الأوروبية الكبرى ببناء مستعمرات لها ما وراء البحار:تمركز البرتغاليون في الهند والبرازيل ، والإسبان في أميركا الجنوبية حيث قضوا على أثنتين من أهم الحضارات في التاريخ وهما:الأزتيك والأنكا.واحتلت فرنسا الشمال الأميركي في كندا.حتى أن إسبانيا والبرتغال ، وبسبب المنافسة الشديدة حول اقتسام المستعمرات ، وقعتا فيما بينهما معاهدة في العام1494 باركها البابا دفعاً للحرب بين أقطاب الكاثوليكية هي معاهدة توردسيلا.
أماالبحر المتوسط الذي كان مسرح السياسة والتجارة والحروب حتى ذلك الحين فقدتقلص دوره إذ بدات الاطماع تتجه نحو المحيط الأطلسي وبحر الشمال. وبدأت بعض المدن تزدهر على حساب أخرى فتقلص دور المدن الإيطالية الكبرى كجنوة والبندقية لحساب مدن أخرى كلشبونة وإشبيلية( Séville ). في هذه الفترة سوف تزداد قيمة المبادلات التجارية عشرين ضعفاً عن معدلاتها في الفترات السابقة،وفيالوقت الذي سوف يتزايد فيه تدفق الذهب والفضة إلى أوروبا وترتفع أثمانالمواد الغذائية ، وستبدأ تجارة العبيد الذين كانوا يحملون على ظهور السفنكالبضائع تماماً ليباعوا رقيقاً للعمل في مستعمرات زراعة قصب السكر فيالجزر البعيدة.
وفي تلك الفترة سوف يزداد حجم المبادلاتالمصرفية وستتقدم الصناعة بخطى حثيثة مما ساهم في الإثراء السريع والفاحشلفئة من الناس : هكذا ، ومع الوقت ،تكونت طبقة جديدة من التجار وأصحابرؤوس الأموال هم الصناعيون وتجار السلع المستوردة والمصرفيون وحتى أصبحهؤلاء ينافسون الأمراء والنبلاء وأصحاب الإقطاعيات الكبرى على الجاهوالثروة .
الفكر العلمي الجديد
في هذا العصرالحيوي الذي يتميز بطابع الديناميكية والتجديد سوف تعرف العلوم نشاطاًملحوظاً لأن باب التنافس أصبح مفتوحاً على مصراعيه: فمنالتقنيات العسكرية إلى التقنيات المعمارية ، اشتدت المنافسة بين المهندسينوالمعماريين لابتكار وتطوير تقنيات جديدة سواء كان ذلك في صناعة السفن أمفي تطوير إداء ساعة اليد. وشمل ذلك التطور قطاعات صناعة الصب والمعادن وطرق المواصلات وعلوم الطب والفلك.... وسوف يسهم كل هذا بتحسين وتسهيل حركة الأفكار الجديدة التي تبحث عن التطور والإبداع والابتكار في الوسائل التقنية والعلمية.
في العام1543 سوفيحقق العالم الفلكي البولوني كوبرنيك ثورة كبرى بنقضه نظرية بطليموس حولمركزية الأرض وبإثباته ، وبواسطة الحساب الرياضي ، بأن الأرض هي كوكبكغيره من الكواكب يدور حول الشمس( يبدوأن هذه النظرية سبق أن قال بها ابن الشاطر الفلكي العربي الشهير وهناك بحثعنها منشور في مجالس الوراق أعده الأستاذ زياد عبد الدائم) .
كانالجمهور المتعطش إلى التغيير يتلقف هذه الأفكار ويدفع بها نحو مزيد منالتطور لأنها كانت تناسب تطلعاته ومزاجه وذلك أنه وبسبب تحسين المستوىالاجتماعي وشروط العيش للطبقة الجديدة(البرجوازية) تغيرأسلوب الحياة وأصبح أكثر رفاهية وبدأ الناس مثلاً باستعمال الأقداحالزجاجية بدلاً من أكواب الفخار والمعدن ، وبدأ استعمال الشوكة في التقاطالطعام ، واستبدلت الصناديق بالخزائن لحفظ الثياب... ،لكن الإكتشاف الأهم الذي غير وجهة المعرفة وساهم في انتشارها كان اكتشاف المطبعة في العام1455 على يد العالم الألماني يوحنا غوتنبرغ. لأنه وحتىذلك التاريخ ، كانت قراءة المخطوطات تقتصر على النخبة والأديرة ، فكان أولكتاب تم طبعه هو الكتاب المقدس ، ثم انتشرت فيما بعد طباعة الكتب لتعمالمدن الأوروبية الكبيرة: وقد طبع في تلك الفترة أكثر من مئة وثلاثين ألف كتاب بما يزيد على مليوني نسخة منها مجتمعة.
حركة الإصلاح البروتستانتية
مارتن لوثر : نظرة جديدة إلى الدين
مارتن لوثر هو راهب ألماني (1483 - 1546 ) فقد إيمانه بقداسة البابا بعد رحلة قام بها إلى روما في العام 1511حيث شاهد بنفسه وعن كثب ممارسات رجال الكنيسة وكيف كانت تباع صكوك الغفرانللمؤمنين بأثمان باهظة بحجة تخفيف العذابات عنهم يوم القيامة وكيف كانتتستخدم تلك الأموال لبناء كنيسة باذخة ( هي كنيسة القديس بطرس ) بأبعادخيالية يستفيد منها رجال الكهنوت وتساهم في ترسيخ سلطتهم .
دعا لوثر إلى إدخال إصلاحاتدينية جذرية أهمها العودة إلى النصوص التوراتية دون وسيط ، والرجوع إلىتعاليم المسيحية الأولى دون اللجوء إلى تفسيرات الكنيسة ورجال الدين. ثم تبعت هذه الحركة الإصلاحية حركات أخرى كالتي قام بها جان كالفن فيفرنسا ( 1509 - 1564 ) والحركة الإنجيلية التي أسسها الملك هنري الثامن فيإنجلترا في العام 1534 .وقد أدت هذهالحركات الإصلاحية إلى قيام حروب واسعة في أوروبا كان بنتيجتها أن تقلصتسلطة الكنيسة بشكل واسع وفقدت الكثير من أتباعها .
على أثر حركة التململ الواسعة تلك،اضطرت الكنيسة الكاثوليكية أن تقوم بحركة مضادة تستعيد فيها هيبتها ، ومنهنا كانت دعوة البابا بول الثالث إلى مجمع " ترنت " (1545 - 1563 ) الذييعرف بأنه " عصرالنهضة الكاثوليكية " وحيث تم التأكيد على أهمية الدورالذي يقوم به القساوسة ورجال الكهنوت في خدمة المؤمنين ، وعلى الطابعالروحي للكنيسة ، وأن محبة الخير واتباع تعاليم الدين الكاثوليكي هيالطريق الوحيدة للنجاة من عذاب الآخرة ، وعلى أهمية شفاعة القديسينوالسيدة العذراء .
*
ظهور الحركة الإنسية في أوروبا
الإنسان في قلب العالم :
نتيجة لكل تلك الأسباب التي ذكرنا ، وخصوصاً بعد سقوط القسطنطينية عام 1453،بدأ العلماء بالنزوح من بيزنطة إلى إيطاليا حاملين معهم تراث اليونانوالرومان ، في الوقت الذي كانت فيه النخبة الجديدة تبحث عن إيمان جديديحررها من ربقة التقاليد الصارمة والمعتقدات القديمة المبنية على الخوفوالخرافات وتقديس الشعائر والعبادات التي تستولي الفكر والجسد وتسيطر علىطاقاته الإبداعية .فكانأن أعيد اكتشاف النصوص القديمة للتراث الإغريقي بواسطة التعلم المكثفلليونانية واللاتينية ، وأعيدت ترجمتها والتدقيق فيها ، وقد تم ذلك بدايةبمساعدة رجال الكنيسة من المتنورين والساخطين،وكان الاعتقاد السائد لديهم هو أن الترجمات التي وصلتهم عبر مسلمي الأندلسمحرفة وبأنها ترجمت من قبل المسلمين بما يتناسب مع معتقدات الدين الإسلامي .
ترافقتهذه الحركة مع اكتشاف المطبعة التي أحدثت ثورة ثقافية وأتاحت انتشارالقراءة الفردية للنصوص سواء كانت دينية أم تراثية قديمة ، لأن النبلاءوالتجار أصبح لديهم كتب يقرؤونها بينما كانت المخطوطات مقتصرة على الأديرةوبعض الخاصة . في تلك الفترة سوف يعاد اكتشاف أفلاطون وشيشرون وبلوتارك وأرسطو ... ، وسوف تستقبل المدارس أولاد البورجوازية الناشئة ، لأن المدارس بدأت بالاستقلال عن الكنيسة وأُنشأت مدارس لتعليم اللغات ، ومدارس " علمانية " على نحو ما فعل الملك فرنسوا الأول في فرنسا حيث أنشأ مدرسة ملكية لتعليم القراءة مرتبطة مباشرة بالملك هي ال Collège De France ، وبدأت الدراسات النحوية والشعرية بالانتشار ، وأصبح أولاد هذه الطبقة الجديدة يقدمون النصح للأمراء والملوك ، ثم انتشرت المكتباتولم تعد مهمة التعليم تقتصر على التحفيظ بل أصبحت تهدف إلى تطوير قدرات الأنسان العقلية والجسدية .هذه الحالة الفكرية كانت تعرف بأنها " جمهورية الأدب " ( على غرار جمهورية أفلاطون )وعنها انبثق تيار الإنسية الذي تخلى عن فكرة ربط الفضيلة والخير بالتعاليم الدينية وأسس إيمانه على الاعتقاد بفضيلة الإنسان .
أنصار الإنسية كانوا يسافرون ويتبادلون المعارف وينظرون بعين الاحتقار إلى معتقدات القرون الوسطى " البالية " وإلى التشبث بعبادة الصور والأيقونات وتماثيل القديسين . إنهم يحبون الكتَّاب القدماء ( اليونان والرومان ) الذين يبهرونهم ويثيرون إعجابهم والذين سوف يخرجون بفضلهم من تلك الدائرة الخانقة .
أشهر أعلام هذا التيار في بداياته كان الهولندي إيراسم (Didier Erasme ( 1469 الذي كان يتقن اللغات القديمة ( اللاتينية واليونانية والعبرية ) وأنشأ مدرسة لتعليم اللغات واشتهر بترجمة ونشر الإنجيل نقلاً عن مخطوطات يونانية قديمة ، كما اشتهر جداً في عصره ، في العام 1511 ، كتابه المعروف باسم " مدح الجنون " الذي يسخر فيه من المعتقدات السائدة في عصره كالسحر والشعوذة ، ووينتقد الترف الخيالي للبابا والقساوسة .ومنهم أيضاً الفرنسي مونتاني Montaigne الذي حاكم بشدة الجرائم التي ارتكبها الأوروبيون بحق الشعوب التي كانت تسكن القارة الأميركية عند اكتشافهم لها ،ورابليه Rablais الذي انتقد ما أسماه في عصره ب " صناعة الحرب " ، واعطى ثقته الكاملة للإنسان وكان ما كتبه مثالاً لثقافة جديدة من التسامح العقائدي ، والفكر الانتقادي ، والفكر الحر .كما ظهرت في تلك الأثناء أفكار جديدة تعبر عن الطموح لأسلوب جديد في الحياة الإجتماعية كما جاء وصفه في مؤلفات castaglione عن " النديم المثالي " الذيهو رمز الإنسان الجديد الذي يجيد السيطرة على انفعالاته ، وهو مهذب وخلوق، يتجنب الكلام القاسي ، يحسن محادثة الآخرين ، مثقف ويجيد الموسيقىوالرقص ، هو بالاختصار رمز لكل رجل جديد يريد أن يكون " إنسانياً " .كما ظهرت أفكار جديدة في السياسة أهمها كتاب ماكيافللي " الأمير " ( 1513 ) الذييقترح فيه أسلوباً جديداً في الحكم فيبين كيف أن رؤساء الدول والأمراء لهمالحق في تغيير سياساتهم والتنصل من وعودهم إذا كان ذلك في مصلحة الحكموالدولة ، إلا أن الهدف الأساسي " للأمير " يجب أن يبقى المصلحة العامة لشعبه فقط وإلا أصبح ديكتاتوراً ووجب التخلص منه .
قلبالإنسيون معادلات العهد القديم التي حكم من خلالها النبلاء ورجال الدينأوروبا لعقود طويلة ، وأسسوا روح النهضة على إيمان جديد يعتمد على العلموالمعرفة والبحث عن إيمان داخلي لا يخضع لسلطة خارجية ، وجعلوا الإنسان فيقلب العالم والقيم الإنسانية فوق كل اعتبار وسعادة الإنسان رهناً بمعرفتهبنفسه والعالم المحيط به .
النهضة الفنية
نظرة جديدة للفضاء والمساحة : تصوير الإنسان والعالم
يؤكد الفلورنتي جورجيو فازاري في كتابه المنشور في العام 1550 ، وهو أقدم كتاب وصلنا عن تاريخ الفن يتناول فيه " حياة أفضل الرسامين والمثَّالين والمهندسين المعماريين " بأن :"نهضةالفن قد بدأت فيإيطاليااعتباراً من 1250 ميلادية " . هذا الاستخدام لكلمة " نهضة " فيذلك العصر يدلل على عمق الشعور الذي كان يعيشه المبدعون والإنسيون في ذلكالتاريخ ووعيهم بأنها كانت مرحلة ولادة جديدة للأدب والفن .
وفعلاً، كانت تلك النهضة قد بدأت في روما وفلورنسا والبندقية في الوقت الذي كانتتدور في أوروبا رحى حروب دينية طاحنة بين المذاهب المتنازعة على شرعيةالتفسير لرسالة المسيح والكتاب المقدس ( الكاثوليكية والبروتستانتية ) ، وهي تخفي ما تخفي وراءها من مصالح الأقلية اليهودية والصراع الطبقي والتجاذبات السياسية والصراعات الإقليمية . وتتميزتلك الفترة بالشعور بالقلق وعدم الاستقرار الذي كان يستولي على الإنسان ،وبأن الأشياء تتحرك باستمرار من حوله ، وبأنه قد ترك عالماً وراءه ليدخلإلى عالم جديد مجهول وغير واضح المعالم .
كانتفلورنسا مقاطعة مستقلة بذاتها تدار من قبل مجموعة من التجار الأثرياءوكانت تشتهر بإنتاجها الحرفي والفني الراقي ، وكانت تحكمها عائلة ميديشي Médicis التي كانت في الفترة الممتدة ما بين عامي 1434 - 1495 تنفق قسماً مقطوعاً من عائداتها لاستيراد وشراء التحف والمنتوجات الفنية وعلى تمويل أعمال الإنسيين من أدباء وشعراء ومفكرين . وبهذا أصبحت فلورنسا عاصمة للثقافة والإشعاع الفني ونجحت بأن تكون نموذجاً رائداً للمدينة والانسجام .
ويميز تلك الفترةتحول جديد طرأ على فن الرسم والنحت والهندسة المعمارية: هذاالتحول كان جذرياً لأنه يتناول مفهوم الفن كطاقة إبداعية لم تعد مهمتهاالأساسية تعليمية أو تبشيرية تهتم بتثقيف الناس وتوجيههم في وجهة محددةبقدر ما تحولت إلى الرغبة في التعبير والإبهار وإثارة الإنفعال .
فيهذه الفترة ، سوف تولد نظرة جديدة تماماً لرؤية المساحة ، بالاعتماد علىالمفاهيم الجمالية للقدماء ( الإغريق والرومان ) وبالاعتماد على هندسةالمساحة الفراغية ، أي بالأبعاد الثلاثية للمسافات. ستنتقل فنون الرسم إلى تصوير الإنسان والمشاهد بطريقة أكثر حيوية وتأثيراًفي نفس المشاهد وأكثر قدرة على توليد الانفعال لديه ، فالانسان ( الحديث ) سوف يتخلى عن دوره كمتلقي سلبي وجامد ويبدو متحركاً ، فالفن أصبح يمثلتلك القدرة على الفعل والخلق . والقدرة على الخلق بمفهوم ذلك العصر هي تلكالتي تحاكي ما خلقه الله على الأرض من كائنات حية ومنفعلة .وقد تمكن الفنانون من التعبير عن قدرتهم تلك بواسطة اللغة الأدبية ، أوبواسطة ما كانوا يصورونه من رسوم وتماثيل ، أو يشيدونه من صروح . ( يمكن الرجوع لمشاهدة أمثلة على ذلك مثل : كنيسة سانت ماريا دل فيوري الفلورنتية Santa Maria Del Fiore ) .
والإنسانالذي أصبح في قلب العالم ، واستعاد قدرته المسلوبة منه بسبب رضوخهالطويل لعبودية الإوهام والخرافات التي حاكتها من حوله عصور الظلام ،سيصبح هو المقياس لكل ما حوله ، تماماً كما كان يفعل القدماء ( الوثنيون ) . فالمعابد اليونانية والرومانية كانت تشيد حول تماثيل الآلهة التي كانتعلى شكل الإنسان ، بل أن تركيبها الجسماني كان يحاكي التركيب المثالي لجسمالإنسان . وكانت المعابد تبنى حولها . وهكذا سيأخذ المثَّالون المثالالرمزي للقدماء في الجمال ، كما فعل الرسام الأشهر في التاريخ: ليوناردو دافنشي (1452 - 1510 ) ، أو كما فعل ميكال إنجلو ( 1475 - 1564 ) الذي سيكشف عن القدرة الخارقة للتعبير لنماذجه الذكورية ، أو كما فعل Botticelli ( 1445 - 1510 ) الذي بحث عن الرمز المثالي للجمال المتعاليفي الأساطير القديمة . أو كما فعل رافييل ( 1483 - 1520 ) الذي يعبر فنهعن فكرته التي يؤمن بها ، وهي أن الإنسان هو إبن الله ( لأنه المسيح عليهالسلام هو بنظره تجسيد للذات الإلهية ) ومن هذا المنطلق فإننا لا نستطيعرؤيته ( أي الإنسان ) إلا كبيراً ، عملاقاً ، قادراً ، جليلاً ، هادئاًومتناسق الأجزاء .
النهضة الأدبية
بدأت بلاطات أوروبا تقارن أسلوب حياتها برفاهية الحياة في المدن الإيطالية الكبرى وتكتشف إلى مدى كانت تتصف بالتقشف والقسوة .من هنا بدأ الوعي بأهمية الثقافة. وكانت حركة الترجمة قد بدأت في فلورنسا كما أسلفنا ومع كتب كان لها الوقع الكبير في نفوس معاصريها ككتاب " المائدة " لأفلاطون الذي ترجمه Marsile Ficin ( 1433-1499 ) الذييعبر عن أن العالم الواقعي لا يمثل سوى صورة متحركة وغير أكيدة نلمح منخلالها الصورة الثابتة والمتعالية لعالم المثل أو الماهيات هي وحدها " الحقيقة " التي يجب أن نضعها نصب أعيننا لكي نبلغ المثال الأعلى للخير ، أي الله جل جلاله .كما ظهرت في تلك الفترة مذاهب الأفلاطونية المحدثة التي كانت تقدس مظاهر الحب والجمال الذي لا تبلغه إلا الأرواح النقية . كما ظهر في الوقت نفسه تيار الشك وتيار الأبيقورية ...
وبعد أن ترجم إيراسم الإنجيل إلى اللاتينية في العام 1516 ، ترجمه إيتابل ( Lefèvre L'Etaples) في العام 1523 إلى الفرنسية، مما أثار غضب لاهوتيي السوربون في حينها ، وحتى تدخل الملك فرنسوا الأول لمصلحته . كماأن القراءة الفردية للنصوص الدينية التي انتشرت بفضل المطبعة كماذكرنا عرضت مفهوم الإحسان المسيحي الذي كانت تنادي به الكنيسة للنقد لأنهكان يجسد في الحقيقة شكلاً من أشكال سلطتها على أموال المؤمنين .
لمتكن الإنسية مذهب العقلانيين وحدهم ، بل أن السحر والتنجيم والمذاهباللاعقلانية كانت قد انتشرت أيضاً في محاولة لتفسير العالم بنفس القدروالدرجة التي نشط بها العلم والأدب ، في محاولة للجمع بين المثال المسيحيوالمثال الوثني في مذهب واحد " إنساني " يتميز بالتسامح والانفتاح على الآخر. وكان الإنسي المتفائل لذلك العصر يؤمن بالانسجام الموجود في العالم بين الإنسان ومثاله الأعلى ( الدين والماورائيات ) وأنه يوجد نوع من التوازن بحيث أن العالم " المتعالي " يوحي ويؤسس للمثال التربوي والسياسي. وبالرغممن كل موجات التعصب الديني والحروب الدينية ، فإن إنسية مونتاني التي تؤكدعلى قيمة وأهمية الثقافة ، وعلى حق الإنسان في حرية التفكير أستطاعت أنتجد لنفسها طريقاً .
حفنة من الشعراء وطلاب الجامعات من الأرسطيين ومحبي الفلسفة اليونانية أسسوا في الحي الللاتيني ( باريس ) مجموعة أسموها " الفرقة " " Brigade " في البداية ، ثم أصبح اسمها فيما بعد "Pléiade " أو مجموعة " الثريا " في العام 1556 وهم : رونسارد Ronsard ، دو بالي Du Ballay ، باييف BaÏf ، بونتوس دو تيارد Pontus DE Tyard ، دو مان Peletier Du Mans الذينحاولوا تقليد هوراس والشعراء القدامى،كما حاولوا الاعتماد على الشعراء الإيطاليين كبترارك ودانتي اللذين وإن كاناقد كتبا باللاتينية ، إلا أنهما منحا للشعر الإيطالي مجده وعظمته .
حملة التشكيل والدفاع عن اللغة الفرنسية التي تزعمها وكتب وثيقتها الشاعر دو بالي في العام 1549 تشرح برنامج تلك المجموعة وتتلخص : 1ـ بالدفاع عن اللغة الفرنسية وإغنائها بالمفردات الجديدة المشتقة من اللاتينية واليونانية ،2 ـ وفي حال عدم وجودها إستخدام الكلمات المشتقة من اللغات والمصادر المحلية ( اللهجات ) ،3ـ الاستغناء عن الأشكال التقليدية للشعر الوسيطي والاستفادة من أشكال الشعر اليوناني القديم ( الغنائية ، الرثائية ، الملحمة ، الهجاء ، الأناشيد .. ) وتقليدها ، ليس بهدف السطو عليها أو الخضوع لها ، وإنما بهدف الإحاطة بها وامتلاك اشكالها الأكثرجمالاً ونبلاً كأشعار : بندار ، هوراس ، فرجيل والرثائيات الللاتينية .وبهذا سيتمكن الشعر ، من خدمة الثقافة وخدمة اللغة الفرنسية .
وبالاستنادإلى الأفلاطونية المحدثة ومذهبها الجمالي كان جماعة " الثريا " يرون فيالإلهام الشعري تمظهراً للروحي والمتعالي الذي يرفع الشاعر إلى مستوىمتلقي الوحي القادر على كشف أسرار الكون والطبيعة . والشعر كما كان يراه رونسارد الذي كان زعيم هذه الحركة بلا منازع ، هو طريق العبور إلى الخلود :
ممتلئاً بنور إلهي أشعل روحي / متطلعاً إلى الأسمى ، سائراًعلى خطى أورفيو / فيمعرفة اسرار السموات والطبيعة / التي تبحث عنها روح لا تحب الخمول ...
وقداستطاع رونسارد ودو بالي التحرر من القيود للنماذج التي كانت مفروضة علىالشعر والعثور على بصماتهما الشخصية في هذا البعث الأدبي الجديد .
النهضة الفنية.. (صور )
تحية طيبة الأستاذة ضياء .
يسعدني أن ألبي طلبك ، ومعذرة عن هذا التأخر فأنا حقا لم أنتبه .
أتمنى أن تكون الصور مناسبة .
1-جدارية لمدرسة أثينا لرافاييل
2- كنيسة سانت ماريا دل فيوري الفلورنتية
3- مايكل أنجلو
merci monsieur Mohamed maddah
Le propriétaire de cette page Web n'a pas activé l'extra "Liste top"!
http://
< !DOCTYPE html PUBLIC "-//W3C//DTD XHTML 1.0 Transitional//EN"
"http://www.w3.org/TR/xhtml1/DTD/xhtml1-transitional.dtd">
jquery test